كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأسند جل وعلا إبداء ما وورى عنهما من سوءاتهما إلى الشيطان قوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 20] كما أسند له نزع اللباس عنهما في قوله تعالى: {كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ} [الأعراف: 27] لأنه هو المتسبب في ذلك بوسوسته وتزيينه كما قدمناه قريبًا. وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أ، يقال: كيف جعل سبب الزلة في هذه الآية وهو وسوسة الشيطان مختصًا بآدم دون حواء قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} [الأعراف: 20] مع أنه ذكر أن تلك الوسوسة سببت الزلة لهما معًا كما أوضحناه.
والجواب ظاهر، هو أنه بين في الأعراف أنه وسوس لحواء أيضًا مع آدم في القصة بعينها في قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} [الأعراف: 20] فبينت آية الأعراف ما لم تبينه آية طه كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
مسألة:
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة: وجوب ستر العورة، لأن قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} يدل على قبح انكشاف العورة، وأنه ينبغي بذل الجهد في سترها. قال القرطبي رحمه الله في تفسيره في سورة الأعراف ما نصه: وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر، ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة كما قيل لهما {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [البقرة: 35]. وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي: أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك.
لأنه سترة ظاهرة، عليه التستر بها كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم انتهى كلام القرطبي.
ووجوب ستر العورة في الصلاة مجمع عليه بين المسلمين. وقد دلت عليه نصوص من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {يا بني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الآية، وكبعثه صلى الله عليه وسلم من ينادي عام حج أبي بكر بالناس عام تسع: «إلا يحج بعد هذا العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان». وكذلك لا خلاف بين العلماء في منع كشف العورة أمام الناس. وسيأتي بعض ما يتعلق بهذا إن شاء الله في سورة النور.
فإن قيل: لم جمع السوءات في قوله: {سَوْءَاتُهُمَا} مع أنهما سوأتان فقط؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول أن آدم وحواء كل واحد منهما له سوءتان: القبل والدبر، فهي أربع، فكل منهما يرى قبل نفسه وقبل الآخر، ودبره. وعلى هذا فلا إشكال في الجمع.
الوجه الثاني أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزاءه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية، والإفراد، وأفصحها الجمع، فالإفراد، فالتثنية على الأصح، سواء كانت الإضافة لفظًا أو معنى. ومثال اللفظ: شويت رؤوس الكبشين أو رأسهما، أو رأسيهما. ومثال المعنى: قطعت من الكبشين الرؤوس، أو الرأس، أو الرأسين. فإن فرق المثنى المضاف إليه فالمختار في المضاف الإفراد، نحو: على لسان داود وعيسى ابن مريم. ومثال جمع المثنى المضاف المذكور الذي هو الأفصح قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ومثال الإفراد قول الشاعر:
حمامة بطن الواديين ترنمي ** سقاك من الغر الغوادي مطيرها

ومثال التثنية قول الراجز:
ومهمهين قذفين مرتين ** ظهراهما مثل ظهور الترسين

وللضمائر الراجعة إلى المضاف المذكور المجموع لفظًا وهو مثنى معنى يجوز فيها الجمع نظرًا إلى اللفظ، والتثنية نظرًا إلى المعنى، فمن الأول قوله:
خليلي لا تهلك نفوسكما أسى ** فإن لهما فيما به دهيت أسى

ومن الثاني قوله:
قلوبكما يغشاهما الأمن عادة ** إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر

الوجه الثالث ما ذهب إليه مالك بن أنس من أن أقل الجمع اثنان. قال في مراقي السعود:
أقل معنى الجمع في المشتهر ** الاثنان في رأي الإمام الحميري

وأما إن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه، أي كانا غير جزأيه فالقياس الجمع وفاقًا للفراء، كقولك: ما أخرجكما من بيوتكما، وإذا أويتما إلى مضاجعكما، وضرباه بأسيافهما، وسألتا عن إنفاقهما على أزواجهما، ونحو ذلك.
وقله تعالى: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى}.
المعصية خلاف الطاعة. فقوله: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ} أي لم يطعه في اجتناب ما نهاه عنه مِن قُربان تلك الشجرة.
وقوله: {فغوى} الغي: الضلال، وهو الذهاب عن طريق الصواب.
فمعنى الآية: لم يُطِع آدمُ ربَّه فأخطأ طريق الصواب بسبب عدم الطاعة، وهذا العصيان والغي بيَّن الله جل وعلا في غير موضع مِن كتابه أن المراد به: أن الله أباح له أن يأكل هو وامرأته مِن الجنة رَغَدًا حيثُ شاءَا، ونهاهما أن يَقرَبا شجرة مُعينة من شجرها. فلم يزل الشيطان يُوسوس لهما ويَحْلِف لهما بالله إنه لهما نَاصِح، وإِنَّهما إِنْ أكلا منهما نالا الخُلود والملْك الذي لا يَبْلى. فخدعهما بذلك كما نصّ الله على ذلك في قوله: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] فأكلا منها. وكان بعض أهل العلم يقول: من خادَعَنا بالله خَدَعنا. وهو مَروي عن عُمر. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي والحاكم: «المؤمن غِرُّ كريم، والفاجر خِبٌّ لئيم». وأنشد لذلك نفطويه:
إن الكريم إذا تَشاء خَدَعْتَه ** وترى اللئيم مجربًا لا يُخْدع

فآدم عليه الصلاة والسلام ما صدَرَتْ منه الزلة إلا بسبب غرور إبليس له. وقد قدمنا قول بعض أهل العلم: إن آدم مِن شدة تعظيمه لله اعتقد أنه لا يمكن أن يَحْلِف به أحد وهو كاذب فأنساه حلف إبليس بِالله العَهْد بالنهي عن الشجرة. وقول بعض أهل العلم: إن معنى قوله: {فغوى} أي فسد عليه عيشه بِنُزوله إلى الدنيا.
قالوا: والغي. الفساد، خلاف الظاهر وإن حكاه النقاش واختاره القشيري واستحسنه القرطبي. وكذلك قول من قال: {فغوى} أي بشم من كثرة الأكل. والبشم: التخمة، فهو قول باطل. وقال فيه الزمخشري في الكشاف: وهذا وإن صحَّ على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفًا فيقول في فَنِي وبَقِيَ، فنا وبقا، وهم بَنُو طَيْئ تفسير خبيث، اهـ منه. وما أشار إليه الزمخشري من لغة طَيْئ معروف. فهم يقولون للجارية: جاراة، وللناصية ناصاة، ويقولون في بَقِيَ بقى كَرَمَى. ومِن هذه اللغة قول الشاعر:
لعمرك لا أخشَى التصعلك ما بقي ** على الأرض قيسي يسوق الأباعرا

وهذه اللغة التي ذكرها الزمخشري لا حاجة لها في التفسير الباطل المذكور، لأن العرب تقول: غوى الفصيل كرضى وكرمى: إذا بشم من اللبن.
وقوله تعالى في هذه الآية: {وعصى ءَادَمُ} يدل على أن معنى {غَوَى} ضلَّ عن طريق الصواب كما ذكرنا. وقد قدمنا أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن هي حجة من قال بأن الأنبياء غير معصومين مِن الصغائر. وعِصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مبحث أصولي لعلماء الأصول فيه كلام كثير واختلاف معروف، وسنذكر هنا طرفًا من كلام أهل الأصول في ذلك. قال ابن الحاجب في مختصره في الأصول:
مسألة:
الأكثر على أنه لا يمتنع عقلًا على الأنبياء مَعْصية. وخالف الروافض، وخالف المعتزلة إلا في الصغائر. ومعتمدهم التقبيح العقلي. والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام.
لدلالة المعجزة على الصدق. وجوَّزه القاضي غلطًا وقال: دلت على الصدق اعتقادًا. وأما غيره مِن المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر والصغائر الخسيسة. والأكثر على جواز غيرهما. اهـ منه بلفظه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكبائر، ومن صغائر الخِسّة دون غيرها من الصغائر. وقال العّلامة العلوي الشنقيطي في نشر البنود شرح مراقي السعود في الكلام على قوله:
والأنبياء عُصِموا مما نهوا ** عنه ولم يكن لهم تفكّه

بجائز بل ذاك لِلتشريع ** أو نية الزلفى من الرفيع

ما نصّه: فقد أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم من تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه. كدعوى الرسالة، وما يبلغونه عن الله تعالى للخلائق. وصدور الكذب عنهم فيما ذكر سهوًا أو نسيانًا منعه الأكثرون وما سوى الكذب في التبليغ. فإن كان كُفرًا فقد أجمعت الأُمَّة على عِصْمَتِهم منه قبل النبُوَّة وبعدها، وإن كان غيره فالجمهور على عِصْمَتهم مِن الكبائر عَمدًا. ومخالف الجمهور الحشوية.
واختلف أهل الحق: هل المانع لِوقوع الكبائر مِنهم عَمْدًا العقل أو السمع؟ وأما المعتزلة فالعقل، وإن كان سهوًا فالمختار العِصْمة منها. وأما الصغائر عمدًا أو سهوًا فقد جَوزها الجمهور عقلًا. لكنها لا تقع مِنْهم غير صغائر الخِسَّة فلا يجوز وقوعها منهم لا عمداص ولا سهوًا انتهى منه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكذب فيما يُبلِّغونه عن الله ومن الكُفر والكبائر وصغائر الخسّة. وأن الجمهور على جواز وُقوع الصغائر الأخرى منهم عقلًا. غير أن ذلك لم يقع فعلًا. وقال أبو حيَّان في البحر في سورة البقرة وفي المنتخب للإمام أبي عبدالله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصّه: مَنعت الأمَّة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا الفضيلية من الخوارج قالوا: وقد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كُفر. وأجاز الإمامية إظهار الكُفر منهم على سبيل التقية. واجتمعت الأمة على عِصْمتهم مِن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، فلا يَجوز عمدًا ولا سهوًا. ومِن الناس من جوز ذلك سهوًا. وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمدًا. واختلفوا في السهو. وأما أفعالهم فقالت الحشوية: يجوز وقوع الكبائر منهم على جِهة العمد. وقال أكثر المعتزلة: بجواز الصغائر عمدًا إلا في القول كالكذب. وقال الجبائي: يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل. وقيل: يمتنعان عليهم إلا على جهة السهو والخطأ، وهُم مأخُوذون بذلك وإن كان موضوعًا عن أمتهم. وقالت الرافضة يمتنع ذلك على كل جهة.
واختلف في وقت العِصْمة. فقالت الرافضة: مِن وَقْت مَوْلدهم. وقال كثير من المعتزلة: مِن وَقْت النبوة. والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتَّة لا الكبيرة ولا الصغيرة. لأنهم لو صَدَر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة لعظيم شرفهم وذلك محال، ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة، ولئلا يجب زَجْرهم وإيذاؤهم، ولئلا يُقْتَدَى بهم في ذلك.
ولئلا يكونوا مُسْتَحِقِّين لِلعقاب، ولِئلا يفعلوا ضِد ما أمروا به لأنهم مُصْطفون، ولأن إبليس استثناهم في الإغواء انتهى ما لخَّصناه من المنتخب، والقول في الدلائل لهذه المذاهب. وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين. انتهى كلام أبي حَيان.
وحاصل كلام الأصوليِّين في هذه المسألة: عِصْمَتهم مِن الكُفر وفي كل ما يتعلق بالتبليغ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة، وأن أكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر غير الصغائر الخسة منهم. ولكن جماعة كثيرة مِن متأخِّري الأصوليِّين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلًا لم يَقع فعلًا، وقالوا: إنما جاء في الكتاب والسنَّة مِن ذلك أن ما فعلوه بتأويل أو نسيانًا أو سهوًا، أو نحو ذلك.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يَقع منهم ما يزري بمراتبهم العَلِّية، ومناصبهم السامِيَة. ولا يستودجب خطأ منهم ولا نقصًا فيهم صَلوات الله وسلامه عليهم، ولو فَرَضْنا أنه وقع منهم بعض الذنوب لأنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة، والإخلاص، وصِدق الإنابة إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلى الدرجات فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئًا من ذلك. ومِما يوضح هذا قوله تعالى: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 121-122]. فانظر أي أثر يبقى لِلعِصْيان والغي بعد توبة الله عليه، واجتبائه أي اصطفائه إياه، وهِدايته له، ولا شكّ أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة. والعلم عند الله تعالى.
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}.
الاجتباء: الاصْطِفاء والاختيار. أي ثم بعد ما صدر مِن آدم بمهلة اصطفاه ربه واختاره فتاب عليه وهداه إلى ما يُرضيه. ولم يبيِّن هنا السبب لذلك، ولكنه بين في غير هذا الموضع أنه تَلَقى مِن ربِّه كلمات فكانت سبب توبة ربه عليه، وذلك في قوله: {فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] أي بسبب تلك الكلمات كما تدل عليه الفاء. وقد قدمنا في سورة البقرة: أن الكلمات المذكورة هي المذكورة في سورة الأعراف في قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] وخير ما يفسر به القرآن القرآن. اهـ.